وافق الخامس والعشرون من أبريل المنصرم الذكرى الحادية والثلاثين للأعياد الوطنية المصرية المرتبطة بتحرير سيناء وفقاً لمعاهدة السلام التي أبرمها الرئيس الراحل محمد أنور السادات عام 1979 مع الطرف الإسرائيلي بمباركة أمريكية. وبعد أن دفع السادات عمره ثمناً للمعاهدة التي وقعها منفرداً وكانت سبباً في خروج مصر من جامعة الدول العربية واستقالة وزير الخارجية إسماعيل فهمي وعدد من الدبلوماسيين المصريين، منهم محمد البرادعي المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن الشواهد الميدانية تشكك في حقيقة التحرير المزعوم.
ورغم عدم توفر نسخة موثقة من المعاهدة، والتي تختلف عن اتفاقية كامب ديفيد الموقعة عام 1977، وكذلك تعذر الحصول على ملاحقها الأمنية فإن الباحث المصري محمد سيف الدولة، المختص بالشؤون الإسرائيلية والمستشار السابق للرئيس محمد مرسي، قد نشر دراسة في أغسطس 2011 يشير فيها إلى التدابير الأمنية الواردة في الملحق الأول للمعاهدة، وكذلك إلى انتشار القوات متعددة الجنسيات في المنطقة الحدودية من سيناء.
فوفقاً للملحق الأمني للمعاهدة، بحسب دراسة سيف الدولة، فإن سيناء قد قسمت طولياً إلى ثلاث شرائح سميت من قناة السويس وحتى شريط (طابا – رفح) الحدودي مع الأراضي الفلسطينية بالمناطق (أ) و(ب) و(جـ). أما المنطقة (أ) فهي محصورة بين قناة السويس والخط (أ) بعرض 58 كيلومتر، وفيها سمح لمصر بفرقة مشاة ميكانيكية واحدة تتكون من 22 ألف جندى مشاة مصرى مع تسليح يقتصر على 230دبابة و126 مدفعاً ميدانياً و126 مدفعاً مضاداً للطائرات عيار 37مم و480 مركبة. ثم المنطقة (ب) وعرضها 109 كيلومتر الواقعة شرق المنطقة (أ) وتقتصر على 4000 جندى من سلاح حرس الحدود مع أسلحة خفيفة. ثم المنطقة (ج) وعرضها 33 كيلومتر وتنحصر بين الحدود الدولية من الشرق والمنطقة (ب) من الغرب ولا يسمح فيها بأى تواجد للقوات المسلحة المصرية وتقتصر على قوات من الشرطة، وهو ما تم تعديله أثناء ثورة يناير بسبب الهزيمة النكراء لقوات الشرطة أمام غضب الأهالي من بدو المنطقة (ج). كما يحظر إنشاء أي مطارات أو موانيء عسكرية في كل سيناء. وفي المقابل، فإن الاتفاقية قد قيدت إسرائيل فقط فى المنطقة (د) التي تقع شرق الحدود الدولية وعرضها 4 كم فقط، وحدد فيها عدد القوات بما لا يزيد عن 4000 جندي.
ويقارن سيف الدولة بين الشروط العسكرية المهينة للمعاهدة وبين حجم القوات المصرية شرق القناة على أرض سيناء يوم 28 أكتوبر1973 – أي بعد التوقف الفعلي لإطلاق النار – فيذكر أن الأخير قد بلغ حوالي 80 ألف جندى مصري وأكثر من ألف دبابة. ولكن الرئيس أنور السادات وافق على سحبها جميعاً وإعادتها إلى غرب القناة ما عدا 7000 جندى وثلاثين دبابة، وذلك في اتفاق فض الاشتباك الأول الموقع في 18 يناير 1974.
أما بخصوص القوات متعددة الجنسيات والمراقبين MFO، أو ما يطلق عليها ذوو القبعات البرتقالية للتفرقة بينهم وبين قوات الأمم المتحدة ذوات القبعات الزرقاء، فقد تم إحلالها محل الدور الرقابي للأمم المتحدة المنصوص عليه في المعاهدة وفقاً لبروتوكول لاحق تم توقيعه بين مصر وإسرائيل في 3 أغسطس 1981. وتتشكل القوات من إحدى عشر دولة تحت قيادة مدنية أمريكية، ولا يحق لمصر – بنص المعاهدة – أن تطالب بانسحاب هذه القوات من أراضيها إلا بعد الموافقة الجماعية من الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن. وتقوم القوة بمراقبة الأراضي المصرية فقط، أما إسرائيل فتتم مراقبتها بعناصر مدنية فقط لرفضها وجود قوات أجنبية على ما تعتبره "أراضيها"، ومن هنا جاء اسمها "القوات متعددة الجنسية والمراقبون" Multinational Forces and Observers.
وتتحدد وظائف القوات متعددة الجنسيات في أربع مهمات؛ وهي: تشغيل نقاط التفتيش ودوريات الاستطلاع ومراكز المراقبة على امتداد الحدود الدولية وعلى الخط (ب) وداخل المنطقة (ج)، والتحقق الدوري من تنفيذ أحكام الملحق الأمني مرتين فى الشهر على الأقل ما لم يتفق الطرفان على خلاف ذلك، وإجراء تحقيق إضافى خلال 48 ساعة بناء على طلب أحد الأطراف، وأخيراً ضمان حرية الملاحة في مضيق تيران. وقد أضيف إلى هذه المهام مهمة خامسة في سبتمبر2005 وهي مراقبة مدى التزام قوات حرس الحدود المصرية بالاتفاق المصري الإسرائيلى الموقع في الأول من سبتمبر 2005 والمعدل فى 11 يوليو 2007، وهو الاتفاق غير معلن التفاصيل الذي تم توقيعه بعد سيطرة حماس على غزة.
ومن الجدير بالذكر أن مقر قيادة القوة في روما، وأن لها مقرين إقليميين في القاهرة وتل أبيب، وأن مديرها الحالي هو الأمريكي ديفيد ساترفيلد الذي تنتهي فترة خدمته في يونيو الحالي (شغل قبل ذلك منصب كبير مستشاري وزيرة الخارجية كونداليزا رايس للعراق ونائب رئيس البعثة الأمريكية هناك، كما كان سفيراً للولايات المتحدة في لبنان). أما القواعد العسكرية للقوات في سيناء فهما قاعدتان؛ الأولى في الجورة فى شمال سيناء بالمنطقة (ج)، والثانية بين مدينة شرم الشيخ وخليج نعمة في جنوب سيناء، بالإضافة إلى ثلاثين مركز مراقبة في سيناء، ومركز إضافي فى جزيرة تيران التابعة للملكة السعودية لمراقبة حركة الملاحة (رغم أن السعودية لا تعترف رسمياً بإسرائيل!)
أما تكوين القوات فقد تم استبعاد كل الدول العربية والإسلامية منه وتم الاقتصار فيه على دول أعضاء بحلف الناتو، وتمثل القوات الأمريكية وحدها ما يقرب من 40% من تعداد القوات الذي لا يزيد عن 2000 جندي، يليها من حيث الحجم كولومبيا وفيجي. وتقدر الميزانية السنوية للقوات بما يقرب من 65 مليون دولار أمريكي تتقاسمهما كل من مصر وإسرائيل. أما على الجانب الآخر في المنطقة (د) فيوجد ما يقرب من 50 مراقباً كلهم من المدنيين.
سيادة منقوصة وخدعة طابا
يرى أبناء قبيلة اللحيوات القاطنة لأراضي طابا أن الاحتفاء بتحرير طابا بعد قصة التحكيم الدولي الطويلة واستردادها بحكم محكمة العدل الدولية بلاهاي في 19 مارس 1989 ما هو إلا إهدار تام للحقوق المصرية في قرية أم الرشراش التي أسماها الإسرائيليون "إيلات". ولأنها المنفذ البحري الوحيد لإسرائيل على خليج العقبة ومنه إلى البحر الأحمر فإن أهميتها الاستراتيجية الفائقة قد يفسر ما يرويه أبناء القبيلة عن اعتقال معمّر القبيلة الشيخ مسمح اللحيوي من قبل السلطات المصرية – بعد توقيع المعاهدة وملاحقها – وانتزاع صك الملكية الذي كان بحوزته لأرض وعقار في أم الرشراش يثبت مصريتها. وهو السلوك الذي قد يزول استغرابه إذا تم ضمه إلى إصرار محافظ جنوب سيناء الحالي، اللواء خالد فودة، على عدم إقامة مدرسة ابتدائية في مدينة طابا موضحاً سبب الرفض لمديرة الجمعية الأهلية السيناوية صاحبة الطلب – بعد ضغط منها – أنه من غير المرحب به أن يتم استقرار وتوطين في طابا!
وفي زيارة ميدانية سابقة لواحة عين القديرات بوسط سيناء، التقيت عدداً من أفراد الكتيبة المشاركة في القوات متعددة الجنسيات من دولة فيجي، وقد قدموا من مقر معسكرهم في منطقة الجورة إلى منبع العين في بطن الجبل للمرح والترفيه وملء بعض الزجاجات من المياه التي يعتبرونها مقدسة، مخالفين بذلك الشروط التي تحددها لهم بطاقات الهوية التي يعلقونها في أعناقهم والتي تفرض عليهم إذنا مسبقاً إذا أرادوا الخروج عن قاعدتهم العسكرية ومسارهم المحدد سلفاً. وقد عبر أبناء الواحة عن استيائهم من استباحة هذه أفراد هذه القوات لقريتهم في حين أنهم يحسبون ألف حساب قبل الخروج من الواحة إلى مدينة العريش مثلاً، بسبب استهدافهم من السلطات المصرية بالتضييق والتفتيش المهين والاعتقال العشوائي.
أجواء منتهكة بالطيران الإسرائيلي
تحظر المعاهدة على الطيران العسكري المصري أن يحلق فوق المنطقة (ج)، وقد التزمت مصر بذلك ولم تحد عنه طيلة العقود الطويلة الماضية ولم يقع أي استثناء عن ذلك سوى في عملية (نسر 1) التي أعلنت عنها القوات المسلحة لتمشيط المنطقة الحدودية بعد قصف قسم شرطة العريش بمدفعية مضادة للطائرات يوم جمعة "الهوية الإسلامية" في 29 يوليو 2011. فقد قامت طائرات الأباتشي المصرية بطلعتين جويتين بموافقة من إسرائيل لمواجهة الجماعات المسلحة في سيناء. وهو استثناء لم يتكرر في العملية (نسر 2) التي أعقبت حادثة تصفية 16 جندياً مصرياً في نقطتهم العسكرية الحدودية (نقطة الحرية) أثناء تناولهم طعام الإفطار في رمضان الماضي (تم استبدال وجود الشرطة بوجود قوات محدودة من الجيش خفيفة التسليح في المنطقة (ج) بموافقة إسرائيلية منذ اندلاع ثورة يناير).
لذلك فإن أبناء المنطقة الحدودية (ج) حين يسمعون أزيز الطائرات فوق رؤسهم فإنهم يعرفون قطعاً أنه ليس طيراناً مصرياً. فالطيران المدني القليل الذي يقلع من مطار العريش يرتفع فوق مستوى الصوت في مسارات بعيدة عن المنطقة الحدودية الشمالية الشرقية (منطقتي الشيخ زويد ورفح). وقد سافرت إليهم من القاهرة محاولاً تتبع هذه الشهادات. وأثناء توثيقي لشهادة اثنين من أبناء قرية المهدية التابعة لمدينة الشيخ زويد سمعت بأذني طائرة عسكرية تحلق فوق القرية التي تبعد 7 كيلومتر عن الحدود مع الأراضي المحتلة (وليس مع غزة). ولأن السماء يومها كانت ملبدة بالسحب لم نتبين ملامح الطائرة، لكن سكان القرية أخبروني عن ررؤيتهم الواضحة لطائرات الاستطلاع الإسرائيلية بدون طيار، المعروفة شعبياً باسم "الزنــــــّـانة"، آخرها كان بتاريخ 15 أبريل الماضي – أي قبل 10 أيام من احتفالات تحرير سيناء. وهو الأمر الذي أكدته شهادات أبناء قرية نجع شبانة الأقرب للحدود. وقد أضاف بعض الشهود رؤيتهم لطائرات إسرائيلية مقاتلة على فترات متقطعة تقوم بعضها أحيانا بالاستعراضات البهلوانية الاستفزازية داخل الأجواء المصرية قبل أن تغادرها عائدة إلى الأجواء الإسرائيلية. وبسؤالهم عن كيفية تحديدهم لنوعية الطائرات أجابوا بأنها خبرة مكتسبة من الحربين الأخيرتين على غزة وتردد كثير من أبناء المنطقة على قطاع غزة أثناء الحرب وقبلها وبعدها، سواءً بشكل رسمي عبر المعبر أم بشكل غير رسمي عبر الأنفاق، وهو الأغلب.
اختطاف سبعة جنود للتفاوض بهم
لم تشأ الأقدار إلا أن تختم زيارتي الأخيرة للشيخ زويد وقرى المنطقة الحدودية بدراما خطف سبعة من جنود الجيش والشرطة على يد مسلحين تابعين للجماعات التكفيرية، اصطادوهم على الطريق أثناء عودتهم إلى العريش في طريقهم لقضاء إجازتهم في قراهم ومدنهم بوادي النيل. وقد وقع الاختطاف بمنطقة الوادي الأخضر بعد أن مررت عليه بساعتين تقريباً في طريقي للمبيت عند أحد الأصدقاء في بادية الشيخ زويد. وبطلوع شمس الخميس 16 مايو كان أهالي الشيخ زويد ورفح قد عرفوا النبأ ومطالب الخاطفين الذين أعلنوا عنها فوراً فلم يتلقوا رد فعل إلا حينما نشروا مقطعاً مصوراً عبر "يوتيوب" يظهر الجنود المختطفين الذين قاموا بتعريف أنفسهم ورتبهم العسكرية وأماكن خدمتهم، وأطلقوا استغاثة برئيس الجمهورية ووزير الدفاع معصوبي الأعين وواضعي أيديهم فوق رؤوسهم.
وبحسب الحاج حسن خلف، شيخ مجاهدي سيناء (المحاربين القدامى المكرمين رسمياً من القوات المسلحة لبطولاتهم الحربية ضد الاحتلال الإسرائيلي)، فإنه لولا هذا الفيديو المحرج والمهين للسلطتين العسكرية والسياسية في مصر فإن دخول القوات المسلحة بآلياتها وتعزيزاتها العسكرية إلى المنطقة (ج) لم يكن ليتم. وقد أكد أنه لم يحدث إلا بتنسيق مع السلطات الإسرائيلية وموافقة القوات متعددة الجنسيات وفقاً لقيود المعاهدة وملاحقها الأمنية وبروتوكولاتها اللاحقة.
ويشرح (س.أ) منطق الخاطفين بأنهم رأوا السلطات تستجيب لمطالب خاطفي السياح والأجانب في جنوب سيناء وتفرج عن محتجزين في قضايا مخدرات، وهم يرون ذوييهم أشرف من تجار المخدرات، ومهربي البشر لذلك لجأوا لسلاح خطف الجنود كورقة ضغط بديلة عن السياح والأجانب الذين يتركزون في جنوب سيناء ولا يزورون الشمال إلا نادراً. وقد أعلنوا مطالبهم على لسان الجنود في الفيديو سالف الذكر، والتي تركزت على وفاء السلطة بوعودها المتكررة بخصوص سجنائهم السياسيين، حيث يطالبون بإعادة محاكمة المحكومين غيابياً وعسكرياً أمام القضاء الطبيعي، وإسقاط الأحكام الانتقامية الملفقة من قبل ضباط أمن الدولة في نظام مبارك. ولم يذكر في الفيديو اسم محدد سوى (حمادة أبو شيتة) الذي كان قد فقد بصره حديثاً بسبب التعذيب داخل سجن طرة في عهد الرئيس الإخواني محمد مرسي. وكان واضحاً من السياق والطريقة التي تم الاختطاف بها أن نية الخاطفين لا تتجه لتصفية الجنود كما حدث في واقعة نقطة الحرية في أغسطس الماضي حيث تم الغدر بالجنود الستة عشر.
فور وقوع الحادثة، بدأ التوظيف السياسي للأزمة من أجل التعبئة ضد السلطة الحاكمة. وبزغ الانقسام في الآراء المطالبة بالحل بين التعامل الحازم العنيف، وبين أصوات أكثر ميلاً للتعقل، ليس فقط حقناً لدماء الأبرياء في المناطق السكنية التي يختبيء فيها الخاطفون، بل حفاظاً على أرواح الجنود أنفسهم. وقد امتد هذا الانقسام إلى داخل القوات المسلحة، التي تعتبر الحاكم الفعلي في سيناء. فضباط العمليات الذين قدموا إلى مدينة العريش لحل هذه الأزمة كانوا يميلون لتحرير الجنود بالقوة. في حين أن الضباط المقيمين للخدمة بالمنطقة الحدودية كانوا يرون التفاوض سبيلاً حكيماً لحل الأزمة لمعرفتهم بالآثار الجانبية المدمرة التي قد يحدثها أي تدخل عسكري، مما يهدد المنطقة بالكامل بالدخول في مواجهات مفتوحة بعضها سيتخذ الطابع القبلي الثأري من سلطات الدولة.
وتشير المصادر إلى أن الخاطفين قد رفضوا بشكل قاطع التواصل مع وزارة الداخلية أو أي ممثل للشرطة، وذلك لسابق الانتهاكات في حق بدو المنطقة الحدودية التي أورثت ثأراً بائتاً منذ عهد مبارك مع المواطنين عموماً، ومع الجماعات الإسلامية خصوصاً. وامتنعوا أيضاً عن التواصل مع قائد مكتب المخابرات العسكرية في العريش بسبب خلافات معه حول إدارة الأنفاق، حيث تغض السلطات الطرف عن تهريب السلع غير المدعمة حكومياً عبر الأنفاق مع غزة. فلم يقبل الخاطفون إلا بالتواصل – عبر وساطة قبلية – مع ضابط يعمل في إدارة المخابرات العسكرية بالقاهرة قد سبق له الخدمة في رفح قبل الثورة ولم يكن له عداءات محلية، بخلاف زملائه الذين يخدمون حالياً في مكتبي رفح والعريش. ونجحت جهود الوساطة الشعبية من مشايخ وعواقل القبائل وبعض مشايخ السلفية المعتدلين في فتح قناة التفاوض مع الخاطفين.
وقد اتبع المفاوض العسكري مع الخاطفين طريقة الحرب النفسية الضاغطة لتحسين موقفه التفاوضي، فشهدت مدن الشيخ زويد والجورة ورفح تحليقاً منخفضاً للطائرات المروحية، وتعزيزاً عسكرياً في الشوارع والطرق الرئيسية، وتم إمهال الخاطفين مهلة قصيرة مع تحذيرهم بأن القوات قد حصلت على ضوء أخضر سياسي وعسكري بالتعامل العنيف. وقد رفض المفاوض مناقشة مطالب الخاطفين مستخدماً المنطق العرفي في الأزمات الشبيهة مطالباً إياهم بإطلاق سراح الجنود أولاً إثباتاً لحسن النية. وبالفعل، أطلق سراح الجنود فجر الأربعاء بمنطقة بئر لحفن جنوب العريش ليجدوا أنفسهم في العراء سائلين أحد السكان المحليين إيصالهم لأقرب نقطة تفتيش. وقد تم نقلهم بطائرة عسكرية من مطار العريش إلى مطار ألماظة العسكري بالقاهرة حيث أقيم لهم استقبال رسمي بحضور رئيس الجمهورية ووزير الدفاع.
وفور انطلاق المؤتمر الصحفي الرئاسي وتوجيه الشكر للقوات المسلحة وأجهزة المخابرات العامة والعسكرية ووزارة الداخلية لم تلبث الأزمة السياسية أن تأججت ثانية. ففي المرة الأولى، عقب الاختطاف، كان المشهد السياسي مزدحماً بالتباكي على هيبة الدولة، ولوم النظام السياسي الحاكم، وتحميل الرئيس محمد مرسي مسؤولية العفو عن سجناء الجماعات الإسلامية. ومن ناحية أخرى، تم توجيه النقد الشديد للقوات المسلحة والتشكيك في جاهزية أفرادها وعناصرها للدفاع عن أنفسهم فضلاً عن ضبط الأمن وتأمين الحدود الشرقية. وقد قوبلت هذه الآراء بتحذيرات استباقية من مغبة إراقة الدماء في منطقة عانت من القمع الأمني سنين طوال. أما الآن، فقد دخلت الأزمة السياسية طوراً جديداً يشهد تشكيكاً في حقيقة عملية الاختطاف وعملية التحرير، واتهاماً لنطام الإخوان الحاكم بتدبير مسرحية يحقق بها إنجازاً لرفع شعبيته. ومن ناحية أخرى، ترتفع أصوات المطالبين بمعاقبة الخاطفين ومحاسبتهم قانونياً، في حين تقابلها أصوات حقوقية تطالب بضرورة بحث المظالم والمطالب سوياً قبل إعمال القانون بشكل انتقائي.
وفي ظل دولة يتسلم جهاز المخابرات العامة فيها مسؤولية الإشراف على مطابخ المدينة الجامعية التابعة للأزهر الشريف، ويصطحب وزير دفاعها والقائد العام لقواتها المسلحة عدداً من الفنانين والفنانات في تفتيش حربي "مفاجيء"، ويتم سرقة سيارة نائب وزير الداخلية بالإكراه، فإن اختطاف الجنود الذين عجزت الدولة عن معاقبة قاتلي زملائهم لا يعدو كونه سطراً اعتيادياً في سردية العبث المصري في سيناء.